أبو الطيب المتنبي، هو ذلك الشاعر الذي تمرّد على الزمان والمكان، وقف متعاليًا على جراحه وآلامه، وقال شعرًا يحمل في طياته الحزن والقوة، الألم والشموخ. إنه شاعر السيف والقلم، مناجي النفوس الجريحة، الذي لا يُقارَب في روعة بيانه ولا يُضاهى في عمق أفكاره. يتنقل المتنبي بين الكلمات كفارس مغوار على صهوة خياله، ينثر الحكمة والشموخ في كل بيت، كما لو كان الشعر نداءً داخليًا يملأ الكون بأصدائه.
فمن منا لا يعرف المتنبي؟ ذلك الشاعر الذي احتفى بالكبر والعزة وأبى أن يكون أسيرًا لقوانين الزمن! وكأن شعره هو ترياق للوجود البشري، ممتزج بالحكمة والموعظة والمرارة. وقصيدته عيد بأية حال عدت يا عيد، هي إحدى تلك القصائد التي تختزن في عمقها كل أحاسيس المتنبي، وكل معاركه النفسية والجسدية مع الحياة والقدر. هي ليست مجرد قصيدة عن عيد يطرق الأبواب، بل هي مرآة لنفس الشاعر، التي لا تعرف الاستقرار ولا تهدأ إلا بشموخها.
أبيات قصيدة عيد بأية حال عدت ياعيد:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِما مَضى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ؟
أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ
فليْتَ دونَكَ بيدًا دونَها بيدُ
لولا العُلى لم تُجِبْني ما أنَا فيهِ
فإنّ أوجاعَنا أهلٌ لما تجدُ
كَأنّنا لم نُبِتْ والوِرْدُ مُمتنعٌ
والسّرْبُ مُرتَهَنٌ والبَيْنُ مشهودُ
ولمْ نرَ الأرضَ تُطوَى في أكفّ بنَا
إذَا كانَ مُنْقَلبٌ والصّيفُ مَعقودُ
إذا المَكارمُ صارتْ في مِنابِذِهِمْ
لمْ تنبُتِ النّبَاتَ إلاّ في أَوْدِ
ليسَ الحَديثُ بذي أنباءٍ تَسُرّ
ولا يرُومُها إلاّ مَن هُوَ النَّوْدُ
سبب إلقاء قصيدة عيد بأية حال عدت ياعيد:
قصيدة عيدٌ بأية حال عدت يا عيد نظمها المتنبي في فترة عصيبة من حياته، بعد أن انقلبت عليه الظروف، وشعر بالمرارة والخذلان من الأوضاع التي كانت تسود في الدولة الحمدانية في تلك الحقبة. هذه القصيدة تُعتبر واحدة من القصائد التي عكست حزن المتنبي الشخصي وشعوره بالضياع في وقت كان فيه مفعمًا بالحسرة على الواقع المرير.
تحديدًا، نظم المتنبي هذه القصيدة في مدينة الكوفة بعدما ترك حلب، حيث كان يعيش في كنف سيف الدولة الحمداني. جاء العيد عليه وهو بعيد عن أحبته، فشعر بالوحدة والفقد، كما أثقلته هموم السياسة والحروب التي دارت في تلك الفترة. المتنبي كان يشعر بتأزم الأوضاع العامة وتفاقم الفتن، ما جعله يعيش لحظات من التأمل العميق في معنى الحياة والكرامة. فعبّر عن كل هذا عبر كلمات قصيدته التي تحمل طابعًا فلسفيًا وجوديًا.
شرح قصيدة عيد بأية حال عدت ياعيد:
البيت الأول:
"عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِما مَضى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ؟"
في هذا البيت، يسأل المتنبي العيد بطريقة متعجبة، وكأنه غير سعيد بقدومه. فهو يتساءل هل العيد قد عاد ليجلب معه تجديدًا للأفراح أم أنه لا يزال كما هو يحمل آلامًا قديمة؟ المتنبي يعكس هنا حالة من الإحباط والحيرة التي يعيشها.
البيت الثاني:
"أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ
فليْتَ دونَكَ بيدًا دونَها بيدُ"
في هذا البيت يتحدث المتنبي عن أحبته الذين يبعدون عنه في المسافات البعيدة. البيداء تشير إلى الصحراء الشاسعة التي تفصلهم عنه، ويعبر عن شعوره باليأس والتمني لو أن بينه وبين العيد كانت هناك صحراء مثل تلك التي تفصله عن أحبائه.
البيت الثالث:
"لولا العُلى لم تُجِبْني ما أنَا فيهِ
فإنّ أوجاعَنا أهلٌ لما تجدُ"
هنا يكشف المتنبي عن سبب معاناته، فهو يرى أن طلب العلا والكرامة هو ما جعله يعاني، وأن ما يتحمله من أوجاع وآلام يستحقه لأنه يسعى إلى ما هو عظيم.
البيت الرابع:
"كَأنّنا لم نُبِتْ والوِرْدُ مُمتنعٌ
والسّرْبُ مُرتَهَنٌ والبَيْنُ مشهودُ"
في هذا البيت، يصف المتنبي حاله وحال من حوله بأنهم كمن لم يبت ليلةً واحدة في أمان أو هدوء، فقد كانت الليالي مليئة بالمخاطر والانفصال عن الأحبة واضحًا.
البيت الخامس:
"ولمْ نرَ الأرضَ تُطوَى في أكفّ بنَا
إذَا كانَ مُنْقَلبٌ والصّيفُ مَعقودُ"
هنا، المتنبي يعبر عن قوة رجال ذلك الزمان الذين كانوا يطوون الأرض بأكفهم في المعارك والغزوات، وكأن الصيف معقود بهم، لكن الأحوال تغيرت.
البيت السادس:
"إذا المَكارمُ صارتْ في مِنابِذِهِمْ
لمْ تنبُتِ النّبَاتَ إلاّ في أَوْدِ"
في هذا البيت يعكس المتنبي حال المجتمع الذي أصبح الفضل فيه معدومًا، فالمكارم والكرامات لم تعد تنمو إلا في الأماكن الخالية والصعبة، أي أنه لا يوجد ما يستحق الفخر في تلك الأحوال.
البيت السابع:
"ليسَ الحَديثُ بذي أنباءٍ تَسُرّ
ولا يرُومُها إلاّ مَن هُوَ النَّوْدُ"
الحديث في ذلك الزمان أصبح مليئًا بالأخبار التي لا تسر، ولا يستمع إلى هذه الأخبار إلا من هو متهور ولا يهتم بما هو سليم وجيد.
تحليل القصيدة وفلسفتها:
القصيدة تحمل مشاعر التمرد واليأس في مواجهة واقع اجتماعي وسياسي مرير. يتجلى في أبياتها شعور المتنبي بالوحدة والانفصال، ليس فقط عن أحبته ولكن عن الأحلام والطموحات التي كانت تملأ قلبه. العيد هنا ليس مناسبة للاحتفال، بل رمز لحالة التناقض التي يعيشها الشاعر بين الرغبة في الفرح والواقع الذي يفرض عليه الحزن.
المتنبي يعكس في أبياته الفلسفية رأيه في الحياة والواقع. فهو يرى أن التطلع إلى المجد والعلا دائمًا يرافقه ألم شديد، وكأن الشخص الذي يسعى إلى المجد محكوم عليه بالمعاناة.
من ناحية أخرى، نلمس في القصيدة استياء المتنبي من حال المجتمع والناس، فالكرامات والمكارم لم تعد تُطلب كما في السابق، والناس لم يعودوا يهتمون بما هو عظيم وجليل، بل أصبحوا يعيشون حياة سطحية تهتم بالمظاهر أكثر من الجوهر.
خاتمة:
عيدٌ بأيةِ حالٍ عُدتَ يا عيد ليست مجرد قصيدة يتغنى فيها المتنبي بقدوم العيد، بل هي مرثية لنفسه ولعصره، تعكس خيبة أمل كبيرة في المجتمع والزمن. المتنبي يظهر فيها كفيلسوف يتأمل في الحياة والمجد والشرف، ويدرك أن طريق المجد مليء بالأشواك. هذه القصيدة تعتبر من
أروع أعمال المتنبي التي تعبر عن فلسفته في الحياة وعن تمرده الدائم على كل ما يعيق طموحه وشموخه.